ياسوجيرو أوزو... الحياة بين ارتفاع ثلاثة أقدام من الأرض وأسفلها


عميقًا في الوادي حلَّ الربيع

سُحُبٌ من براعم الكرز

ولكن ها هنا العين الساكنة، طعم الإسقمري

البراعم يغمرها الأسى

وطعم الساكي مرير.


كتب المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو هذه الأبيات الشعرية عقب تشييع جنازة والدته، وقبل أشهر قليلة من وفاته في شتاء عام 1963، هذه الأبيات التي تمثل محور سينما ياسوجيرو بأن براعم الكرز يغمرها الأسى وإن طال الزمن.

بكاميرا ثابتة وعلى ارتفاع ثلاثة أقدام، تميزت سينما ياسوجيرو بالعرض المسرحي المستوحى من الحياة نفسها، فالحياة مسرح كبير، وما نحن إلا ممثلون نؤدي أدوارنا على مسارح مختلفة حتى يُسدل الستار على حياتنا بنهاية مأساوية عنوانها الفراق والوحدة.

"وُلدت، ولكن؟" فيلم صامت أنتجه أوزو عام 1932 عن الحياة في بواكيرها من وجهة نظر الأطفال، وانتهى العرض عام 1962 بفيلم ظهيرة يوم خريفي، الذي يمثل نهاية مأساوية لحياة الإنسان بعد تجرُّعه كأس الساكي المرير. ما بين "وُلدت و لكن"، و "ظهيرة يوم خريفي" ، قدَّم أوزو أفلامه التي تعبر عن تقلبات الحياة المختلفة في إطار أطول عرض ديناميكي في مسرح الحياة "الأسرة".

"شومينجكي" هكذا تُعرف الدراما المنزلية في اليابان، التي يُعتبر ياسوجيرو أوزو الأب الروحي لها. وبرغم خصوصية هذه الأفلام في الثقافة اليابانية، إلا أنها ذات طابع عالمي عابر للتاريخ والثقافات، فالعلاقة بين الابن ووالده، والبنت ووالدها، ونظرة الأطفال للحياة هي علاقات في جوهرها متشابهة بين البشر بمختلف ثقافاتهم.

عميقًا في الوادي حلَّ الربيع، هكذا دائمًا تبدأ أفلام ياسوجيرو بحلول الربيع، حيث التجمع العائلي الدافئ. يبدأ التصوير بالأماكن الفارغة وينتهي بها، فالبداية تهيئة للمسرح المصغر الذي تبدأ فيه الأحداث: البراد الأحمر، مشروب الساكي، الجلسات المنخفضة، ولكن النهاية تترك الغرف فارغة، إشارة إلى الفراق. نفس التصوير في البداية والنهاية، ولكن كل مشهد يترك أثراً مختلفاً. في نهاية أفلام أوزو، هناك حزن عميق وجميل، يدعونا ألا ننسى البراعم قبل أن يغمرها الأسى، وأن علينا تقبل مرارة طعم الساكي، فالوحدة حتمية.

ولكن ما هو الفراق الذي عبَّر عنه أوزو في أفلامه؟ لم يكن الفراق عند أوزو مرتبطًا بالعلاقة الرومانسية بين رجل وامرأة، بل كان أكثر رقة، فهو يعبر عن الفراق الأخير الذي يتذوقه الإنسان عند حلول الخريف. عندما تزوجت كل من أخواتي، أتذكر بكاء والدتي، ولكن لا أتذكر كيف كان شعور والدي حيال الأمر، فنحن في مجتمع لا يُعبِّر فيه الرجل عن مشاعره. ولكن ياسوجيرو، في فيلم الربيع المتأخر وظهيرة يوم خريفي، أظهر حقيقة شعور الأب عند فراق ابنته. في الربيع المتأخر، يقشر الأب تفاحة متكئاً على كرسي، يشعر بحزن عميق عندما رحلت ابنته وتزوجت. تعود صورة الأماكن الفارغة في نهاية الفيلم، ويجلس الأب وحيداً يقشر التفاحة، وعلى ملامحه حزن عميق ولكنه جميل، فهو يعبر عن عاطفة إنسانية نقية، تحمل الامتنان والحب. الحياة، في النهاية، لا بد أن يغمرها الأسى، وعلينا تقبل ذلك بجعل هذا الحزن جميلاً.

لا يكف أوزو عن تكرار هذه المشاهد. في فيلم ظهيرة يوم خريفي، ينتهي الأب وحيدًا عند زواج ابنته، يشرب الساكي، ويغني لأيام حلول الربيع، عندما كانت البراعم ناضرة. أما في فيلم قصة طوكيو، فكان الأمر مختلفًا. انتهى الفيلم بالأب وحيدًا في الريف بعد انتهاء مراسم تشييع زوجته. ذهب الأبناء إلى العاصمة لمتابعة أعمالهم، وتركوه وحيدًا متشححاً بالسواد. تأتي جارته لتقول: "الآن أصبحت وحيداً وحيداً " يجيب: "نعم"، وعلى وجهه نظرة لامبالاة، ولكن عندما تغادر، يتبدل وجهه، ويظهر حزن عميق. يُعد هذا المشهد من أكثر المشاهد حزناً في أفلام أوزو، بل ربما في كل السينما العالمية. الأماكن الفارغة تظهر من جديد، ولكن هذه المرة ليست المجالس والغرف، بل مدينة طوكيو بأكملها. كان أثر رحيل الزوجة أعظم وأشد حزناً، وكان هذا المشهد الوحيد الذي لم يُظهر فيه أوزو جمالاً، بل كان لا يُطاق.

"وُلدت، ولكن"، "رسبت، ولكن"، "تخرجت، ولكن"، "الربيع المتأخر"، "الصيف المبكر"، "ظهيرة يوم خريفي" جزء من أفلام ياسوجيرو التي تصور حياة الإنسان في مختلف مراحلها، مستصحبةً التراث الياباني. رسم ياسوجيرو هذا المسار لأفلامه دون أن يتأثر بأعظم أحداث القرن العشرين الحرب العالمية الثانية. دققت كثيراً في أفلام أوزو، قبل الحرب وبعدها، وهو الذي كان جزءًا منها وقاتل فيها، ولكن لم يذكرها أبداً إلا بتلميحات بعيدة وعميقة. في مشهد عابر، تظهر امرأة توفي زوجها في الحرب، كما في قصة طوكيو، أو يظهر أثر هزيمة اليابان، كما في ظهيرة يوم خريفي.

كان ياسوجيرو أوزو شاهداً على تاريخ اليابان، وتأثير الحرب في ثقافتها. في الماضي، كانت المرأة في اليابان مجرد ربة منزل، تنتظر إذن والدها بالزواج. ويا للمفارقة! اليوم، المرأة في اليابان تتحكم في كل شؤون الأسرة المالية، حتى أن الزوج يودع كامل راتبه في حساب زوجته! لهذا، كانت أفلامه تعتبر مرجعية ، و لم تكن مقبولة في موجة الليبرالية التي اجتاحت البلاد في ستينيات القرن الماضي.

مضى ياسوجيرو إلى مثواه الأخير في نفس اليوم الذي وُلد فيه، 12 ديسمبر عام 1963، تاركاً إرثاً عظيماً في السينما العالمية. مضى إلى طريق النهاية وحيداً، لم يتزوج ولم ينجب، وكُتب على قبره: "مو"، وتعني "اللاشيء". أبى ياسوجيرو أن يتجرع طعم الساكي المرير، ولكنه تذوقه. وبراعمه غمرها الأسى، دون أن يرى نضارتها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحياة ولا شيء سواها... من كوكر إلى الخرطوم

بورتريه ذاتي: أوديسة زهرة الكرز... ربيع متأخر أم كذبة أبريل؟!