الحياة ولا شيء سواها... من كوكر إلى الخرطوم


في عام 1987، أنتج المخرج والشاعر والمصور الفوتوغرافي عباس كيارستمي فيلمه الطويل الثالث بعنوان "أين منزل الصديق". تدور أحداث الفيلم في قرية تُسمى كوكر شمال طهران، ويحكي عن مغامرة الصبي أحمد في محاولة لإرجاع دفتر صديقه في قرية مجاورة. لإضافة الواقعية والتلقائية، عمل المخرج الإيراني مع ممثلين غير محترفين من نفس القرية "كوكر". تتحرك الكاميرا لترصد الحياة على طبيعتها في القرية، التلال ، الخضرة، الطرقات الجبلية، والأزقة الضيقة. لدى كيارستمي إحساس عالٍ بالإطار الجغرافي للَّقطة، مما يجعل المشاهد جزءًا من القصة. لذلك تعني قرية كوكر الكثير لمحبي السينما.

بعد ثلاث سنوات من إنتاج الفيلم، ضرب زلزال مانجيل رودبار طهران مخلفًا أكثر من 40 ألف قتيل و500 ألف مشرد. حمل كيارستمي كاميرته في رحلة إلى كوكر مرة أخرى ليطمئن على ممثليه المغمورين في فيلم "أين منزل الصديق" رحلة تتأرجح بين الواقع والشاشة، المأساة والأمل، الحياة والموت. أسفرت الرحلة عن تصويره لفيلم "الحياة ولا شيء غيرها" عام 1992، ليكون واحدًا من أعظم الأفلام في التاريخ.


يبدأ الفيلم بمشهد مدته ثلاث دقائق، مُصوَّر من سيارة متحركة، يستعرض من خلاله آثار الزلزال، رجال ونساء يبحثون تحت الأنقاض عن كل ما ابتلعته من حلم وحب وأمل. يحمل كيارستمي (الذي أدى دوره الممثل فرهاد خيرادماند) صورة الطفل، ويسأل المارة عنه وعن كوكر  هل تعرفه؟ هل هو حي أم ميت؟ تظهر التلال والخضرة، فيعاودنا الحنين إلى كوكر، الحنين والخوف أيضًا مما أصبحت عليه. تصدح موسيقى فيفالدي، ونساء متشحات بالسواد يبكين على القبور، فيما يتردد صوت في الخلفية: "لا إله إلا الله، لا إله إلا الله" في مشهد بديع تتراقص ظلال المأساة مع بريق الصبر.


في مشهد سيريالي كوميدي-أو ربما يبدو كذلك - يصادف كيارستمي سيد روحي، حاملاً مرحاضًا على ظهره. كان سيد روحي ممثلًا عمل معه في فيلم "أين منزل الصديق". يقول: "الحمد لله، فقدنا كل شيء، ولكن لم يمت منا أحد". ولم يفت على كيارستمي السؤال عن المرحاض، فيجيبه سيد روحي: "الذين ماتوا انتهى أمرهم، أما الأحياء فيحتاجون لهذه القطعة الثمينة من البورسلين". ويكمل سيد روحي في مناسبة أخرى "... الفن يجدد الناس، والاستمرار في الحياة هو أيضًا نوع من الفن".

في مشهد آخر، تتحدث سيدة عن عائلة لم ينهَر بيتها في الزلزال، لكن لسوء الحظ، خرجوا للاحتفال، فانتهى بهم الأمر جميعًا تحت الأنقاض. بينما يحكي آخر عن أخيه الذي لم تلدغه بعوضة، فبقي في المنزل، لينتهي به الأمر أيضًا تحت الأنقاض. بلمسة من الحزن، الصبر، والأمل، يختتم جميع من سمعنا قصصهم حديثهم بعبارة "تلك مشيئة الله".


يعتقد كيارستمي أن وظيفة السينما هي طرح الأسئلة وليس الإجابة عليها، لكن هذه المرة فقط، في هذا الفيلم، يجيب الشاعر الإيراني عن سؤال: هل هناك حياة بعد المأساة؟.


إن الخرطوم هي كوكر كيارستمي، ومعالمها ومسارحها هي تلال وطرقات كوكر. ربما كان زلزال الخرطوم أشد قسوة من زلزال مانجيل رودبار، لكن سنرى أهلها يومًا ينهضون من ركام الأنقاض. سنرى أبناءها في سوح الجامعات والمدارس، وستتزين لياليها بالمسارح وجلسات المحبين على ضفاف النيل. ستعود إليها الروح بصبر أهلها، مرددين "تلك مشيئة الله". وسيُمحى هذا الحزن من شوارعها ليس بغياب المأساة، ولكن لأن الاستمرار في الحياة هو أيضًا نوع من الفن. ومن يجيد الفن غير أهل الخرطوم؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ياسوجيرو أوزو... الحياة بين ارتفاع ثلاثة أقدام من الأرض وأسفلها

بورتريه ذاتي: أوديسة زهرة الكرز... ربيع متأخر أم كذبة أبريل؟!