المشاركات

ربيع متأخر بعد ظهيرة يوم خريفي!

مرَّ العام الثامن عشر ولم يولد مولود جديد في العالم، وتقلّص عدد السكان إلى النصف بعد حرب نووية طاحنة اجتاحت الأرض، وفقد معظم البشر الأمل والإيمان. نشطت جماعة دينية أطلقت على نفسها اسم "جماعات الخلاص والتوبة"، وكانت تدعو الصالحين إلى قتل أنفسهم للتخلّص من شعور الذنب الملازم لهم بسبب عدم منعهم اندلاع الحرب النووية. بدأت هذه الجماعة ككرة ثلج صغيرة تتدحرج حتى اجتاحت كل المؤمنين في العالم. في الجانب الآخر نشطت الجماعات العدمية، وكانت تدعو إلى قيام ثورة ضد الإله الذي لم يحرّك ساكنًا أمام الكوارث التي ضربت العالم! وكانت دعوتها للبشر جميعًا أن ينهوا حياتهم ويتركوا الأرض خالية من بعدهم بدأ الناس يتداولون الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي بهاشتاقات موحّدة: #الانتحار_الجماعي، وبدأت الجماعات بتوزيع القصاصات الورقية في الأسواق والمدن والقرى في كل أنحاء العالم، وكانت تدعو إلى الانتحار الجماعي في اليوم الأول من شهر يناير القادم. لم يكن هناك أمل ولا إيمان؛ لقد سئم الجميع العالم. كانت الولايات المتحدة أول دولة تعلن رسميًا تبنّيها مشروع الإنتحار الجماعي، وتبعتها الدول الأخرى تباعًا. انعقد بع...

مرآة في السديم..

أيها الغريب، أنا متأسف لأني أدعوك بالغريب، إنه رمز تضليلي مبتذل، ولكن لا عليك، أنا هنا الآن وجدتك مختبئًا في غيابة الجب، تخشى الضوء، وجدتك بعد أن حسبت أنني فقدتك إلى الأبد. أرجوك أن تسامحني، كنت أسمع نحيبك، و كان يقتلني، ولكن فرّقت بيننا الأزمنة والأبعاد الكونية.  كنت أسمع نحيبك، ولكن لا أراك، أبحث عنك ولم أجد خطاك، وكم كنت تائهًا بلاك. يا حبيبي، أنا هنا وإن طال الزمن، يا حبيبي، أنا هنا برغم المحن. كنتَ دائمًا في الوجدان أراك في الورود عند الربيع، وعند الصقيع، عند الغروب، ورائحة البحر، وشعاع الشمس. أراك في القمر، وفي عيون المحبوبة المخادعة، في سينما أندريه تاركوفسكي وثيودوروس أنجيلوبولوس، حيث الغائب دائمًا حاضر في الوجدان.  لقد كنتَ أنت، متنكّرًا على هيئة الشوق الوجودي، تبعث برسائلك المتجاوزة للزمان والمكان. يا حبيب الروح، تهت بعدك، ومَسّني الضُر، كيف لا؟ وبُعدك!. أرهقتني مسكنات الألم، لم تعد تجدي، ولكن لا مسكّن إلا قربك. هات يدك، هات يدك، أيها الكوكب الذي نسي سطوعه، تعال أشعل فيك نار الحياة لتضيء غياهب العدم، وتستعيد توهجك البهيج. تعال، يا رفيقي، إلى جنة عرضها السماوات والأرض...

بورتريه ذاتي: أوديسة زهرة الكرز... ربيع متأخر أم كذبة أبريل؟!

  الرابع من أبريل، حلَّ الربيع، السماء زرقاء صافية، تفتحت زهرات اللوز وتزقزق العصافير، المياه تفك وثاقها وتُكسر سلاسل الأسر، فيُسمع خريرها بعد الصمت تحت وطأةِ الظلام والوحدة. تسقط زهرة الكرز بسرعة خمس سنتيمترات في الثانية لتفارق الشجرة، تلفحها الرياح يمينًا ويسارًا، تسقط على الأرض، يُداس عليها فتفقد نضرتها، تحرقها الشمس، ورفاتها تذروها الرياح، تنتظر عامًا آخر لربما تينع من جديد. في أعوام لاحقة، تمرَّدت الشمس لتطل على العالم، أظلمتِ الشوارع، تجمدت المحيطات، وذبُلت زهرة الكرز منتظرة ميلادًا جديدًا دائمًا، تسقط فيه على أنهار الفردوس العظيم. ما زالت الشمس في تمردها، موسيقى شوبان "ربيع الفالس" تُعزف ببيانو معلَّق على بساط منير، عليه لوحة فان جوخ "فروع شجرة اللوز المزهرة". تلملم زهرة الكرز رفاتها على أنغام أوركسترا الربيع لفيفالدي، فتخضر على أمل الازدهار الأبدي. في السماء، مرآة تعكسُ فيها فروع شجرة اللوز المثمرة، وزهرة الكرز ترى نفسها وقد أرهقها النمو؛ فروع يانعة مزدهرة وجهها نحو السماء، وأخرى ذابلة مُطأطئة وجهها نحو الأرض، كما في لوحة "عباد الشمس". ينظر وجه نحو...

ياسوجيرو أوزو... الحياة بين ارتفاع ثلاثة أقدام من الأرض وأسفلها

عميقًا في الوادي حلَّ الربيع سُحُبٌ من براعم الكرز ولكن ها هنا العين الساكنة، طعم الإسقمري البراعم يغمرها الأسى وطعم الساكي مرير. كتب المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو هذه الأبيات الشعرية عقب تشييع جنازة والدته، وقبل أشهر قليلة من وفاته في شتاء عام 1963، هذه الأبيات التي تمثل محور سينما ياسوجيرو بأن براعم الكرز يغمرها الأسى وإن طال الزمن. بكاميرا ثابتة وعلى ارتفاع ثلاثة أقدام، تميزت سينما ياسوجيرو بالعرض المسرحي المستوحى من الحياة نفسها، فالحياة مسرح كبير، وما نحن إلا ممثلون نؤدي أدوارنا على مسارح مختلفة حتى يُسدل الستار على حياتنا بنهاية مأساوية عنوانها الفراق والوحدة. "وُلدت، ولكن؟" فيلم صامت أنتجه أوزو عام 1932 عن الحياة في بواكيرها من وجهة نظر الأطفال، وانتهى العرض عام 1962 بفيلم ظهيرة يوم خريفي، الذي يمثل نهاية مأساوية لحياة الإنسان بعد تجرُّعه كأس الساكي المرير. ما بين "وُلدت و لكن"، و "ظهيرة يوم خريفي" ، قدَّم أوزو أفلامه التي تعبر عن تقلبات الحياة المختلفة في إطار أطول عرض ديناميكي في مسرح الحياة "الأسرة". "شومينجكي" هكذا تُعرف الدر...

الحياة ولا شيء سواها... من كوكر إلى الخرطوم

في عام 1987، أنتج المخرج والشاعر والمصور الفوتوغرافي عباس كيارستمي فيلمه الطويل الثالث بعنوان "أين منزل الصديق". تدور أحداث الفيلم في قرية تُسمى كوكر شمال طهران، ويحكي عن مغامرة الصبي أحمد في محاولة لإرجاع دفتر صديقه في قرية مجاورة. لإضافة الواقعية والتلقائية، عمل المخرج الإيراني مع ممثلين غير محترفين من نفس القرية "كوكر". تتحرك الكاميرا لترصد الحياة على طبيعتها في القرية، التلال ، الخضرة، الطرقات الجبلية، والأزقة الضيقة. لدى كيارستمي إحساس عالٍ بالإطار الجغرافي للَّقطة، مما يجعل المشاهد جزءًا من القصة. لذلك تعني قرية كوكر الكثير لمحبي السينما. بعد ثلاث سنوات من إنتاج الفيلم، ضرب زلزال مانجيل رودبار طهران مخلفًا أكثر من 40 ألف قتيل و500 ألف مشرد. حمل كيارستمي كاميرته في رحلة إلى كوكر مرة أخرى ليطمئن على ممثليه المغمورين في فيلم "أين منزل الصديق" رحلة تتأرجح بين الواقع والشاشة، المأساة والأمل، الحياة والموت. أسفرت الرحلة عن تصويره لفيلم "الحياة ولا شيء غيرها" عام 1992، ليكون واحدًا من أعظم الأفلام في التاريخ. يبدأ الفيلم بمشهد مدته ثلاث دقائق، مُص...

خدعة الضوء الأزرق ، بين كيشلوفسكي و كورايدا

 بين الضوء الأزرق (Blue) و خدعة الضوء (Maborosi) قدّم كيشلوفسكي و كورايدا سيمفونية رائعة تحكي عن الحزن عبر حوار سينمائي بين إنسانوية كيشلوفسكي و فردانيته كمخرج أوربي   متبنياً سردية التحرر من الحزن و واقعية كورايدا المخرج الياباني الذي ينتمي إلى ثقافة المونو نو أواري (رثاء الأشياء) بأنه لا فِرار منه، بل هو سنة الحياة. تم إنتاج فيلم أزرق كيشلوفسكي عام 1993و هو الجزء الثاني من ثلاثية الألوان المستنبطة من الثورة الفرنسية و استخدام اللون الأزرق كدلالة على الحرية، الحرية من الحزن. تنجو جولي من حادث تحطم سيارة فقدت على إثره زوجها و طفلتها، عبّر كيشلوفسكي عن حزن جولي بالصمت و تدفق اللون الأزرق الذي يملأ الشاشة و لقطات ال close up و المشاهد الطويلة. مستخدماً النظرية اللاكانية للصدمة، يبدأ كيشلوفسكي في ترميم حياة بطلة الفيلم من جديد، بالانخراط في الحب و العودة إلى الموسيقى لبناء جدار يفصلها عن ألم الصدمة، ينتهي الفيلم بتحرر جولي أخيراً من الحزن.  في فيلم خدعة الضوء (Maborosi) الذي تم إنتاجه في عام 1995 يرد كورايدا بأن اللون الأزرق، لون الحرية، مجرد وهم فلا يمكننا حقاً الفرار ...

السينما مرآة الروح

 قبل مائة و تسعة و عشرون عاماً منحنا الأخوان لومير أدوات النحت في الزمن و هذا التعبير، أي النحت في الزمن، ابتدعه  آندريه تاركوفسكي ،المخرج العظيم الذي يوصف السينما بأنها فن تشكيل الزمن كما ينحت النحات الصخر ليشكل التحفة الفنية. السينما هي عزاؤنا في هذا العالم القاسي و هي المواساة لمعاناتنا و لشعورنا بالوحدة و هي الذاكرة الشعورية و الوعي المشترك للجنس البشري و هي طريقة لمعرفة العالم و معرفة الآخرين. آلاف الشخصيات السينمائية هي اسقاط لأحلام و معاناة و عشق و كفاح عن حياتنا، عن التاريخ و الفلسفة و  الخيال. في السينما ،و أعني هنا السينما الحقيقية، يفتح صانع الأفلام نافذة إلى داخله يبوح لنا عن هواجسه و خيالاته و أحلامه و أفكاره لنتشاركها معه لنشعر بالأسى تجاهه، لنحلم،لنغضب لنشعر بهيامه و بمعضلاته الأخلاقية و الوجودية، صانع الأفلام أهلكه الصمت و هو يتحدث إلينا كمتنفس، كمن تخنقه العبرة عند البكاء و كمن يحتضن المحبوبة عند اللقاء.  يقول مستر فورد أن باخ و شوبان و موتسارت لم يموتوا بل أصبحو موسيقى ،ولكن ماذا يصبح كيارستمي و تاركوفسكي و كيشلوفسكي و بيرغمان و أنجيلوبولوس؟ إنهم لم...